التفسير:
{ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) }
الكوثر : هو الخير الكثير,
وهو فوعل من الكثرة وصف به للمبالغة في الكثرة ، والعرب تسمي كل شيء كثير
في العدد ، والقدر ، والخطر " كوثرًا " ، قال الشاعر :
وأنا كثير يا ابن مروان طيب... وكان أبوك ابن العقائل كوثرَا
ومعنى الآية:إنا أعطيناك
-أيها النبي- الخير الكثير في الدنيا والآخرة كالنبوة والقرآن والحكمة
وكثرة الأتباع والشفاعة ونحوها ، ومن ذلك الخير نهر الكوثر في الجنة الذي
حافتاه خيام اللؤلؤ المجوَّف، وطينه المسك. فقد أخرج البخاري بسنده عن أبي
بشر عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس أنه قال في
(الكوثر): هو الخير الذي أعطاه الله إياه. قال أبو بشر: قلت لسعيد بن
جبير: فإن ناسًا يَزْعُمون أنه نهر في الجنة؟ فقال سعيد: النهر الذي في
الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه".وروى أحمد والترمذي وصححه ، وابن ماجه وغيرهم عن عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ قَالَ:قَالَ
لِي مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ مَا سَمِعْتَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَذْكُرُ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْكَوْثَرِ فَقُلْتُ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا الْخَيْرُ الْكَثِيرُ. فَقَالَ مُحَارِبٌ:سُبْحَانَ
اللَّهِ مَا أَقَلَّ مَا يَسْقُطُ لِابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلٌ ,سَمِعْتُ
ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: لَمَّا أُنْزِلَتْ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ
الْكَوْثَر) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "هُوَ
نَهَرٌ فِي الْجَنَّةِ حَافَتَاهُ مِنْ ذَهَبٍ يَجْرِي عَلَى جَنَادِلِ
الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ, شَرَابُهُ أَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ, وَأَشَدُّ
بَيَاضًا مِنْ اللَّبَنِ ,وَأَبْرَدُ مِنْ الثَّلْجِ, وَأَطْيَبُ مِنْ
رِيحِ الْمِسْكِ"
قَالَ: صَدَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ, هَذَا وَاللَّهِ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ".
وروى البخاري ومسلم عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "
لَمَّا عُرِجَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّمَاءِ قَالَ: أَتَيْتُ عَلَى
نَهَرٍ حَافَتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ مُجَوَّفًا, فَقُلْتُ: مَا هَذَا
يَا جِبْرِيلُ ؟ قَال:َ هَذَا الْكَوْثَرُ " وروى البخاري عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَ:سَأَلْتُهَا
عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } قَالَتْ:
نَهَرٌ أُعْطِيَهُ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
شَاطِئَاهُ عَلَيْهِ دُرٌّ مُجَوَّفٌ آنِيَتُهُ كَعَدَدِ النُّجُومِ ".
وقد ورد في صفة الحوض المورود- حوض النبي -
صلى الله عليه وسلم – أنه في أرض المحشر يوم القيامة, وماءه من الجنة من
نهر الكوثر إذ يصب منه ميزابان في هذا الحوض , وهو حوض عظيم طوله شهر
وعرضه شهر, وآنيته عدد نجوم السماء , يَرِد عليه أهلُ الإيمان من أمة
النبي - صلى الله عليه وسلم – ويُطرد عنه من نكص على عقبيه , ومَن شرب منه
شربة لم يظمأ بعدها أبداً".نسأل الله تعالى أن نشرب منه شربة لا نظمأ
بعدها أبداً بفضله وكرمه.
.......................................
{ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) }
والنحر : الذبح .فالإبل تُنحر، و البقر والغنم تُذبح.
ومعنى الآية: فأخلص لربك صلاتك كلها، واذبح ذبيحتك تقربًا له وحده وعلى اسمه وحده.إذ العبادة بكل صورها لا تُصرف إلاّ لله وحده كما قال تعالى: {
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ
الْمُسْلِمِينَ } [الأنعام: 162 ، 163]
وقيل المراد بالآية: صلاة العيد ، ونحر الأضحية. قاله قتادة وعطاء وعكرمة.
وقيل المراد بالنحر في الآية: أن يرفع يديه في الصلاة عند التكبيرة إلى حذاء نحره.
......................................
{ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ (3) }
ومعنى الشأنيء: المبغض , من الشنآن بمعنى العداوة والبغض ، ومنه قوله تعالى : ] وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ }[المائدة2] أي بغضهم.
و[ الأبتر ] المنقطع عن كل خير ، من البتر وهو القطع يقال
: بترت الشيء يعني قطعته ، والسيف الباتر : القاطع ، ويقال للذي لا نسل
له: أبتر لأنه انقطع نسبه.
ومعنى الآية : إن مٌبغِضَك - يا محمد- ومٌبْغِض ما جئتَ به من الهدى والحق والنور المبين، هو الأبتر الأقل المنقطع ذكْرُه. المقطوع من كل خير.
ـــــــــــــــ
* البلاغة : تضمنت السورة الكريمة وجوها من البديع والبيان نوجزها فيما يلي :
1- صيغة الجمع الدالة على التعظيم f]إنَّا أعطيناك ] ولم يقل : أنا أعطيتك.
2- تصدير الجملة بحرف التأكيد الجاري مجرى القسم ] إنَّا ] أي نحن.
3- صيغة الماضي المفيدة للوقوع ] أعطيناك ] ولم يقل سنعطيك لأن الوعد لما كان محققا عبر عنه بالماضي مبالغة ، كأنه حدث ووقع.
4-المبالغة في لفظة ]الكوثر].
5- الإضافة للتكريم والتشريف f]فصل لربك ] . والفاء تفيد السرعة.
6- إفادة الحصر f]إن شانئك هو الأبتر ] .
7- المطابقة بين أول السورة وآخرها بين f]الكوثر والأبتر ] فالكوثر الخير الكثير ، والأبتر المنقطع عن كل خير.
ــــــــــــــــ
تنبيه: روى مسلم وغيره عن أنس رضي الله عنه قال: "
بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا إِذْ أَغْفَى
إِغْفَاءَةً, ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا ,فَقُلْنَا :مَا
أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا
سُورَةٌ فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:{ إِنَّا
أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ
هُوَ الْأَبْتَرُ }.
ثُمَّ قَالَ : أَتَدْرُونَ مَا
الْكَوْثَر؟ُ فَقُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ, قَالَ: فَإِنَّهُ
نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ, عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ , هُوَ
حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ آنِيَتُهُ عَدَدُ
النُّجُومِ , فَيُخْتَلَجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ فَأَقُولُ :رَبِّ إِنَّهُ
مِنْ أُمَّتِي, فَيَقُولُ: مَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَتْ بَعْدَكَ ". وقد
استدل بهذا الحديث كثير من القراء على أن هذه السورة مدنية، وكثير من
الفقهاء على أن البسملة من السورة، وأنها منزلة معها.وأما الجمهور فعلى
خلاف ذلك.
*** تمت بحمد الله ***