الإلمام بشيء من أحكام الصيام
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه بحوث في الصيام كتبتها بطلب من بعض الإخوان، ثم رغب إليَّ بعضهم في نشرها، فوافقت على ذلك، رجاء أن ينفع الله بها.
وقد ذكرت أقوال العلماء في المسائل الخلافية التي بحثتها، وقرنت كل قول
بالدليل، أو التعليل في الغالب، ورجَّحت ما ظهر لي ترجيحه مع بيان وجه
الترجيح، وقصدت من ذلك الوصول إلى الحق، وسمَّيتها
(الإلمام بشيء من أحكام الصيام)
وأسأل الله أن ينفعني بها وإخواني المسلمين وأن يغفر لي الزلل والخطأ، وأن
يجعل العمل خالصًا لوجهه الكريم، وصوابًا على شرعه ودينه القويم، وسببًا
موصلًا إليه وإلى دار كرامته، إنه سبحانه خير مسئول، وهو أهل التقوى وأهل
المغفرة، وحسبنا الله، ونعم الوكيل، ولا حول، ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، ونبينا محمد وعلى آله وصحبه
والتابعين، والحمد لله رب العالمين.
1- فرضية صيام رمضان ووجوبه:
تعريف الصيام
الصيام في اللغة: مجرد الإمساك، يُقال: صام النهار، إذا وقف سير الشمس،
ويقال للساكت صائم لإمساكه عن الكلام، ومنه قوله - تعالى - عن مريم - رضي
الله عنها -: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا أي صمتًا؛ لأنه إمساك
عن الكلام، ويقال للفردوس الممسك عن السير صائم، قال الشاعر:
خـيلٌ صيـامٌ وخـيلٌ غـير صائمـة
تحت العجاج وأخرى تعلُك الُّلجُمَا
يعني بالصائمة الممسكة عن الصَّهيل .
والصوم في الشرع: إمساك بنية عن أشياء مخصوصة من شخص مخصوص، بشرائط مخصوصة .
وصوم رمضان واجب وفرض
من فرائض الإسلام العظيمة، وهو أحد أركان الإسلام الخمسة، والأصل في وجوبه
الكتاب والسنة والإجماع، والأدلة على وجوبه وفرضيته ظاهرة واضحة معلومة
لعامة المسلمين فضلا عن خاصتهم، وفُرض صوم رمضان في السنة الثانية من
الهجرة، فصام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسع رمضانات إجماعا، وأجمع
المسلمون على وجوب صوم رمضان، فرض الله على الأمة المحمدية صوم شهر واحد في
كل عام، وهو شهر رمضان.
قال الله - تعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ
عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ
خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ
وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ
الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ
بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى
مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ .
وثبت في الصحيحين عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- قال: بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا
رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام
.
ففي هذا الحديث الشريف أن الإسلام بني على دعائم خمس، وأن صيام رمضان هو
الدعامة الرابعة، والركن الرابع من أركان الإسلام التي يقوم عليها الإسلام.
وثبت في صحيح البخاري أن أعرابيا جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
ثائر الرأس فقال: يا رسول الله! أخبرني ماذا فرض الله علي من الصلاة؟
فقال: الصلوات الخمس إلا أن تطوَّع شيئًا، فقال: أخبرني بما فرض الله علي
من الصيام؟ فقال: شهر رمضان إلا أن تطوع شيئا، فقال: أخبرني ما فرض الله
علي من الزكاة؟ قال: فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشرائع الإسلام
قال: والذي أكرمك بالحق لا أتطوع شيئا، ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا،
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفلح إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق .
فهذا الحديث فيه دليل على أن من أدى الواجبات والفرائض، وترك المحرمات فهو
ناج، وهو من أهل الجنة لقوله، -صلى الله عليه وسلم-: أفلح إن صدق، أو دخل
الجنة إن صدق بعد قوله: لا أتطوع شيئا، ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا.
وهؤلاء هم المقتصدون، وهم الأبرار، فإن تطوع مع ذلك بفعل النوافل، والرواتب
-نوافل الصلاة، والصوم والصدقة والحج والجهاد وغيرها- كان من السابقين،
وهم المقربون، وهم أهل الدرجات العالية، فإن قصر في بعض الواجبات، أو ترك
بعضها، أو فعل بعض المحرمات فهو ظالم لنفسه، وهو من أهل الجنة، وإن أصابه
قبل ذلك شدة وأهوال وعذاب في القبر، أو في النار.
وهؤلاء الأصناف الثلاثة هم المصطَفَوْن أهل الجنة الذين أورثهم الله الكتاب
قال الله - تعالى- ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا
مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ
وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ
الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ
أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ نسأل
الله الكريم من فضله.
ومن أدلة فرضية صوم رمضان ما ثبت في الصحيح عن ابن عمر - رضي الله عنهما -
قال صام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عاشوراء وأمر بصيامه فلما فرض
رمضان ترك ومعنى ترك أي ترك صوم عاشوراء وجوبا وبقي استحبابا.
وفي صحيح البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - أن قريشا كانت تصوم يوم
عاشوراء في الجاهلية، ثم أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصيامه حتى
فرض رمضان، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من شاء فليصمه، ومن شاء
فليفطر .
ومن الأدلة على فرضية الصيام حديث جبريل المشهور الذي رواه مسلم في صحيحه
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مطولا، ورواه البخاري عن أبي هريرة -
رضي الله عنه - مختصرا في سؤال جبريل للنبي -صلى الله عليه وسلم- عن
الإسلام والإيمان والإحسان والساعة وأشراطها، ولما سأله عن الإسلام أجابه
النبي -صلى الله عليه وسلم- الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا
رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن
استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت الحديث.
فمن أنكر فرضية الصوم ووجوبه فهو كافر مرتد عن الإسلام؛ لأنه أنكر فريضة
عظيمة وركنا من أركان الإسلام، وأمرا معلوما من الدين بالضرورة، ومن أقر
بوجوب صوم رمضان، وأفطر عامدا من غير عذر، فقد ارتكب كبيرة عظيمة يُفسَّق
بها، ولا يُكفَّر في أصح قولي العلماء، ويلزم بالصوم، ويعزره الحاكم الشرعي
بالحبس، أو الجلد، أو كليهما، وقال بعض أهل العلم: إذا أفطر رمضان من غير
عذر كفر، نسأل الله السلامة والعافية من كل سوء، ونسأله الثبات على دينه
حتى الممات.
- بماذا يجب صيام رمضان ؟
وبماذا يجب الفطر من رمضان ؟:
يجب صوم رمضان بأحد أمرين لا ثالث لهما:
أحدهما: رؤية هلال رمضان.
والثاني: إكمال شعبان ثلاثين يوما.
ويجب الفطر من رمضان بأحد أمرين لا ثالث لهما:
أحدهما: رؤية هلال شوال.
والثاني: إكمال رمضان ثلاثين يوما إذا ثبت رؤية هلال رمضان بشهادة عدلين.
والأدلة على ذلك كثيرة في السنة المطهرة، فمنها ما ثبت في صحيح البخاري عن
عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
ذكر رمضان فقال: لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن
غُمَّ عليكم فاقدروا له .
وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
قال: الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غُمَّ عليكم
فأكملوا العدة ثلاثين أخرجه البخاري .
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال النبي -صلى الله
عليه وسلم-: الشهر هكذا، وهكذا وخنس الإبهام في الثالثة ومعنى الحديث أن
النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: الشهر هكذا أي - بسط أصابع يديه العشر -
"وهكذا" أي بسط أصابعه العشر مرة ثانية فتكون عشرين يوما، ثم بسط أصابعه
العشر في المرة الثالثة وخنس الإبهام أي قبضه فتكون تسعة أيام مع العشرين
السابقة فيكون الشهر تسعة وعشرين يوما - يعني هذا المحقق - وقد يكمل فيكون
ثلاثين يوما.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي -صلى الله
عليه وسلم-: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُبِّي عليكم فأكملوا عدة
شعبان ثلاثين .
وللعلماء في قوله -صلى الله عليه وسلم- فإن غم عليكم فاقدروا له تأويلان:
أحدهما: تأويل الجمهور أن المراد بقوله: "فاقدروا له" انظروا في أول الشهر
واحسبوا تمام الثلاثين، ويرجح هذا التأويل الروايات الأخرى المصرحة بالمراد
كقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن عمر السابق: فأكملوا العدة
ثلاثين وفي حديث ابن عمر عند مسلم فإن غم عليكم فاقدروا ثلاثين .
وفي حديث أبي هريرة عند مسلم فإن غمِّي عليكم الشهر فاقدروا ثلاثين .
وقوله في حديث أبي هريرة فإن غُبِّي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين .
وأولى ما فسّر الحديث بالحديث، وتأويل الجمهور هذا هو الصواب، وهو أنه لا
يصام إلا برؤية الهلال، أو بإكمال عدة الشهر ثلاثين يوما سواء كان الشهر
شعبان، أو رمضان، ويؤيد هذا المعنى، وهذا التأويل الأحاديث التي وردت
بالنهي عن صوم يوم الشكّ كحديث أبي هريرة عند البخاري عن النبي -صلى الله
عليه وسلم-: لا يتقدَّمن أحدكم رمضان بصوم يوم، أو يومين إلا أن يكون رجل
يصوم صومه فليصم ذلك اليوم وحديث عمّار عند البخاري تعليقا مجزوما به من
صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم- .
التأويل الثاني: أن المراد بقوله "فاقدروا له" ضيّقوا له بجعل الشهر تسعة
وعشرين يوما فيصام يوم الثلاثين إذا كان يوم غيم، وإلى هذا ذهب ابن عمر -
رضي الله عنهما - فكان يأمر من ينظر ليلة الثلاثين من شعبان فإن كان يوم
صحو ولم ير أصبح مفطرا وإن كان يوم غيم أصبح صائما وإلى هذا ذهب أيضا بعض
الحنابلة وهذا القول ضعيف مخالف للنصوص التي فسرت هذه اللفظة: "فاقدروا له"
إذ الأحاديث يفسر بعضها بعضا، واجتهاد ابن عمر لا يعارض به ما أوضحته
النصوص ودلت عليه.
وقيل في معنى قوله "فاقدروا له" أي بحساب المنازل.
الثاني: أنه يجوز تقليد الحاسب دون المنجّم.
الثالث: أنه يجوز لهما ولغيرهما مطلقا.
ومن الأدلة على بطلان هذه الأقوال: ما ثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر -
رضي الله عنهما - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: إنا أمة أمية لا
نكتب، ولا نحسب، الشهر هكذا، وهكذا يعني مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين.
فهذا الحديث دليل على إبطال الاعتماد على الحساب في دخول الشهر وخروجه،
وإنما يعتمد على الرؤية، أو إكمال عدة الشهر ثلاثين يوما، والحديث وصف هذه
الأمة أهل الإسلام وصفا أغلبيا بأنه ليس من شأنها الكتابة والحساب في دخول
الشهر وخروجه، وإن كانت تكتب، وتحسب في الأمور الأخرى كأمور التجارة
وغيرها، والمراد أنه لا يعول على الحساب، وإنما يعول على رؤية الهلال في
الأحكام؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- علق الحكم بالرؤية لا بالحساب،
والرؤية يدركها الخاص والعام، والجاهل والعالم، وهذا يدل على يسر الشريعة
وسماحتها فلله الحمد على ما يسر وسهل، وله الحكمة التامة في ما يشرعه
لعباده لما يعلمه سبحانه لهم من المصلحة والرحمة، وهو الحكيم العليم سبحانه
وبحمده.
3-أطوار الصيام وأحواله:
اقتضت حكمة العليم الخبير أن تكون شرعية صيام رمضان على أطوار وأحوال، لما لله سبحانه في ذلك الحكمة والرحمة المناسبة لأحوال عباده.
فالحال الأولى والطور الأول: تخيير العبد بين الصيام وبين الإفطار والإطعام
عن كل يوم مسكينا، والصيام أفضل وذلك في قوله - تعالى - وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ
خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ بعد قول الله - تعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ
مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ .
الحالة الثانية والطور الثاني: إيجاب الصيام حتما على المقيم الصحيح القادر
المكلف، لكن إذا حضر الإفطار وغابت الشمس، ثم نام قبل أن يفطر، أو صلى
العشاء حَرُم عليه الطعام والشراب والنساء إلى الليلة المقبلة، فحصل عليهم
حرج، ومشقة شديدة.
الحال الثالثة والطور الثالث: إباحة الأكل والشرب والنساء في ليل الصيام من
غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وأنزل الله في ذلك قوله - تعالى - أُحِلَّ
لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ
لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ
تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ
بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ
الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ
.
وعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: كان أصحاب محمد -صلى الله عليه
وسلم- إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته
ولا يومه حتى يمسي، وأن قيس بن صِرْمة الأنصاري كان صائما، فلما حضر
الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا. ولكن أنطلق، فأطلب لك،
وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته فلما رأته قالت: خيبة لك،
فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فنزلت
هذه الآية: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى
نِسَائِكُمْ ففرحوا بها فرحا شديدا، ونزلت: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ
البخاري .
ففي هذا الحديث قيد المنع من الأكل والمفطرات بالنوم، وقيد المنع من ذلك في
حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - بصلاة العتمة، أخرجه أبو داود بلفظ:
كان الناس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صلوا العتمة حرم
عليهم الطعام والشراب والنساء وصاموا إلى القابلة وفي جزاء إبراهيم بن
ثابت من طريق عطاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال كان المسلمون إذا
صلوا العشاء حرم عليهم الطعام والشراب والنساء، وأنّ صِرْمة بن أبي أنس وهو
قيس بن صرمة بن أبي أنس غلبته عيناه فذكر الحديث السابق حديث البراء.
وعن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: لما نزلت هذه الآية: وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ كان من أراد أن يفطر،
ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها، وعنه - رضي الله عنه - أنه قال:
كنا في رمضان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من شاء صام، ومن شاء
أفطر، فافتدى بطعام مسكين حتى أنزلت هذه الآية: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ
الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ أخرجه مسلم في صحيحه .
وبهذه النصوص يتبين أن الذي استقرت عليه الشريعة في صيام رمضان، هو وجوب
الصوم على المكلف القادر الصحيح المقيم حتما، ولا يجوز له الفطر في نهار
رمضان، وأن الله أباح الفطر للصائم في ليلة الصيام من غروب الشمس إلى طلوع
الفجر، فلله الحمد على ما يسَّر وسهّل وامتن ولطف وأعظم الأجر لعباده
المؤمنين، والحمد لله رب العالمين.
4- فضل الصيام
الصوم فضله عظيم، وفضائله كثيرة منها:
1- أن الصيام جُنَّة وسُترة للصائم من الآثام ومن النار كما في صحيح
البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
قال: الصيام جنة فلا يرفث، ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله، أو شاتمه فليقل إني
صائم مرتين .
2- ومنها: أن رائحة فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، كما في حديث أبي
هريرة السابق، فإن في آخره: والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند
الله من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي فهي أطيب عند الله
من ريح المسك، وإن كانت مستكرهة في مشام الناس في الدنيا لكونها ناشئة عن
طاعة الله وابتغاء مرضاته.
3- ومنها: أن الله أضاف الصيام إليه من بين سائر الأعمال كما في الصحيحين
من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: قال الله كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به .
ولفظ مسلم كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال
الله عز وجل إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه من أجلي .
قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله - في وظائف شهر رمضان: فعلى هذه الرواية
يكون استثناء الصوم من الأعمال المضاعفة فتكون الأعمال كلها تضاعف بعشرة
أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد، بل
يضاعفه الله - عز وجل- أضعافا كثيرة بغير حصر عدد، فإنه الصيام من الصبر،
وقد قال الله - تعالى - إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ
بِغَيْرِ حِسَابٍ ولهذا ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه سمى رمضان
شهر الصبر، وفي حديث آخر عنه، -صلى الله عليه وسلم- قال: [الصوم نصف الصبر
أخرجه الترمذي
والصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر على محارم الله، وصبر على
أقدار الله المؤلمة، وتجتمع الثلاثة في الصوم، فإن فيه صبرا على طاعة الله،
وصبرا عمّا حرم الله على الصائم من الشهوات، وصبرا على ما يحصل للصائم فيه
من ألم الجوع والعطش وضعف النفس والبدن، وهذا الألم الناشئ من أعمال
الطاعات يثاب عليه صاحبه، كما قال الله - تعالى - في المجاهدين: ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا
يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ
إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وفي حديث سلمان المرفوع
الذي أخرجه ابن خزيمة في صحيحه في فضل شهر رمضان: " وهو شهر الصبر، والصبر
ثوابه الجنة". ا هـ كلامه رحمه الله. ولفظ رواية البخاري قال الله: كل
عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به .
قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله - في وظائف شهر رمضان: قد كثر القول في
معنى ذلك، فإن الله خص الصيام بإضافته إلى نفسه من بين سائر الأعمال وذكروا
فيه وجوها كثيرة ومن أحسنها وجهان:
أحدهما: أن الصيام مجرد ترك حظوظ النفس وشهواتها الأصلية التي جُبلت على
الميل إليها لله - عز وجل - ولا يوجد ذلك في عبادة أخرى غير الصيام؛ لأن
الإحرام إنما يترك فيه الجماع ودواعيه من الطيب دون سائر الشهوات من الأكل
والشرب، وكذلك الاعتكاف مع أنه تابع للصيام، وأما الصلاة فإنه إن ترك
المصلي فيها جميع الشهوات إلا أن مدتها لا تطول فلا يجد المصلي فقد الطعام
والشراب في صلاته، بل قد نُهي أن يصلي، ونفسه تتوق إلى طعام بحضرته حتى
يتناول فيه ما يسكن نفسه، ولهذا أمر بتقديم العشاء على الصلاة - إلى قوله -
وهذا بخلاف الصيام فإنه يستوعب النهار كله فيجد الصائم فقد هذه الشهوات،
وتتوق نفسه إليها خصوصا في نهار الصيف لشدة حره وطوله - إلى قوله - فشكر
الله تعالى له ذلك واختص لنفسه عمله هذا من بين سائر أعماله.
الوجه الثاني: أن الصيام سر بين العبد وربه لا يطلع عليه غيره؛ لأنه مُركّب
من نية باطنة لا يطلع عليها إلا الله، وترك لتناول الشهوات التي يُستخفى
بتناولها في العادة، ولذلك قيل: لا تكتبه الحفظة وقيل: إنه ليس فيه رياء،
كذا قاله الإمام أحمد وغيره - إلى قوله - فإن من ترك ما تدعوه نفسه إليه
لله - عز وجل - بحيث لا يطلع عليه غير من أمره، أو نهيه دلَّ على صحة
إيمانه، والله تعالى يحب من عباده أن يعاملوه سرا بينهم وبينه، وأهل محبته
يحبون أن يعاملوه سرا بينهم وبينه بحيث لا يطلع على معاملتهم إياه سواه. ا
هـ كلامه رحمه الله.
4- ومن فضائل الصوم: أن الصيام وكذا الصلاة والصدقة كفارة لفتنة الرجل في
أهله وماله وجاره فيما يقع من الكلام مع أهله، أو جاره مما لا يليق من
نزاع، أو كلام، أو غضب، أو سبّ، أو نحوه، وكذا ما يحصل له من الانشغال
بالمال.
كما ثبت في صحيح البخاري عن حذيفة قال: قال عمر - رضي الله عنه -: من يحفظ
حديثا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الفتنة؟ قال حذيفة أنا سمعته
يقول: فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصيام والصدقة
قال: ليس أسأل عن ذه، إنما أسأل عن التي تموج كما يموج البحر، قال: وإن دون
بابا مغلقا قال: فيفتح، أو يكسر؟ قال: يكسر، قال: ذلك أجدر أن لا يغلق إلى
يوم القيامة.
5- ومن فضائل الصوم: أن في الجنة بابا للصائمين يقال له الريان يدخلون فيه
دون غيرهم كما ثبت في الصحيحين عن سهل - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله
عليه وسلم- أنه قال: إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل فيه الصائمون
يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال أين الصائمون؟ فيقومون، لا يدخل
منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل فيه أحد .
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- قال: من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة، يا عبد
الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل
الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريان، ومن
كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة الحديث.
6- ومن فضائل الصوم: أن لصائم رمضان عن إيمان واحتساب يغفر له ما تقدم من
الذنوب كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي -صلى
الله عليه وسلم- قال: من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم
من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه .
وصيام رمضان من أسباب مغفرة الذنوب، لكن المغفرة مقيدة بهذا الشرط: "إيمانا
واحتسابا" أي إيمانا بالله ورسوله، وتصديقا بشريعته، واحتسابا للأجر
والثواب، بأن يصومه إخلاصا لوجه الله بنية لا رياء، ولا تقليدا، ولا تجلّدا
لئلا يخالف الناس، أو لغير ذلك من المقاصد، ويضاف إلى هذا الشرط شرط آخر
لا بد منه في مغفرة الذنوب للصائم، أو القائم، وهو أداء الواجبات، وترك
المحرمات لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند مسلم الصلوات الخمس
والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر
ولقول الله - تعالى -: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ
نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ فهما شرطان لمغفرة الذنوب.
7- ومن فضائل الصوم: أن الصائم إذا لقي ربه فرح بصومه كما في الصحيحين من
حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم
فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه . أما فرح
الصائمِ بلقاء ربه فلما يراه من جزائه وثوابه، وترتّب الجزاء الوافر عليه
بقبول صومه الذي وفقه الله له.
وأما فرح الصائم عند فطره فسببه تمام عبادته وسلامتها من المفسدات، وما
يرجوه من ثوابها حيث تم صومه وختمت عبادته وأبيح له الفطر الملائم لطبيعته
فزال جوعه وعطشه.
5- حكمة الصيام:
قال الله - تعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ لقد بنى الله دين الإسلام على شرائع وعبادات وفرائض وواجبات،
أقامها على دعائم من الخير وقواعد من البر تفيد أهلها في الدنيا، وتنفعهم
في العقبى، وتسعدهم في الدنيا والآخرة، وإن أعظم تلكم الشرائع وأجلها بعد
الشهادتين والصلاة والزكاة، هو صوم شهر رمضان المبارك، الذي جعله الله
فريضة على هذه الأمة ووسيلة عظمى لتقواه، كما قال - تعالى-: كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ إلى قوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فالله - تعالى -
لم يشرع الصوم لحاجته إليه، كلا، بل هو الغني الحميد، الكامل في ذاته
وصفاته وأسمائه وأفعاله، فلا يحتاج إلى أحد، ولا يحتاج إلى شيء، بل كل شيء
فقير بذاته إليه، وهو الغني بالذات عن جميع الأشياء، وعن جميع المخلوقات.
فالله - تعالى - شرع الصيام ليكون وسيلة عظمى لتقواه سبحانه، وتقوى الله
جماع خيري الدنيا والآخرة، وهي وصية الله للأولين والآخرين، كما قال -
تعالى-: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وتقوى الله سبب في تفريج
الكربات، وكفاية الله لعبده ما أهمه من أمور دينه ودنياه، وسبب في تيسير
الرزق الحلال للعبد من حيث لا يحتسب العبد، قال الله - تعالى -: وَمَنْ
يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا
يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ فالمتوكل
على الله قد اتقى الله، والصائم من المتقين، وقد قال - تعالى -: يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ وتقوى الله سبب في تيسير أمور العبد: وَمَنْ يَتَّقِ
اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا وتقوى الله سبب في تكفير
السيئات وإعظام الأجور وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ
سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ومن اتقى الله قذف الله في قلبه
نورا يفرق به بين الحق والباطل وكفَّر سيئاته وغفر ذنبه: يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا
وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو
الْفَضْلِ الْعَظِيمِ .
فالله - تعالى - شرع الصيام لصالح المسلمين شرعه تربية للأجسام، وترويضا
لها على الصبر، وتحمل الآلام، شرعه تقويما للأخلاق، وتهذيبا للنفوس،
وتعويدا لها على ترك الشهوات ومجانبة المنهيات، شرعه ليعلمنا- نحن المسلمين
- تنظيم معاشنا، وتوحيد أمورنا، شرعه ليبلونا أينا أحسن عملا: الَّذِي
خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ شرع الصيام ليكون وسيلة للتقوى:
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .
لقد أودع الله في الصوم من الحكم والأسرار والمصالح الدينية والدنيوية ما
هو فوق تصور البشر، ورتب عليه - تعالى- من جزيل الثواب وعظيم الجزاء، ما لو
تصورته نفس صائمة لطارت فرحا وغبطة، وتمنت أن تكون السنة كلها رمضان لتبقى
دوما مُمتَّعة بهذا الروح والريحان.
فالواجب على العبد أن يؤدي الصيام بإخلاص ورغب ورهب وصبر وطواعية، وانشراح
صدر، محفوظا عن كل ما يشينه، أو يجرحه، أو ينقص ثوابه. فإن الصائم يترك
المحبوب من الشهوات لرضا المحبوب الخالق سبحانه، فالصيام نعمة كبرى، به
تكفر الذنوب، وترفع الدرجات، وبه يقهر العبد الشيطان بتضييق مجاري الطعام
والشراب؛ لأنه يجري مع الشهوات من ابن آدم مجرى الدم، وهي تضعف بالصوم،
وبالصوم تقوى صلة العبد بربه؛ لأنه عمل خفي، وكلما كان العمل خفيًّا كان
أقرب إلى الإخلاص.
ومن حكم الصيام وأسراره أن يكون عونًا للعبد على طاعة الله، فيجتهد في فعل
الخيرات واجتناب المحرمات: فمن لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة
في أن يدع طعامه وشرابه .
ومن حكم الصيام الصحة في الأبدان، ويُروى: صوموا تصحُّوا ومن حكم الصيام
تذكُّر الغني الأكباد الجائعة من الفقراء والمساكين والمعوزين، كما قال بعض
السلف لما سئل عن حكمة الصوم فقال: ليذوق الغني طعم الجوع حتى لا ينسى
الفقير، وهذه من حكم الصيام.
وبالجملة: فالصيام شُرع تعبُّدًا لله وخضوعا لأمره، وتعظيما له -سبحانه-
ليتحلى المسلم بالتقوى، التي هي فعل الأوامر، وترك المحارم، فالصوم الحقيقي
ليس هو مجرد الإمساك عن الطعام والشراب والتمتع الجنسي فحسب، بل هو مع ذلك
أداء للواجبات، وترك للمحرمات وحفظ للجوارح عن السيئات، حفظ للعينين عن
النظر المحرم، وللسان عن الفحش والكذب والسباب والغيبة والنميمة وقول
الزور، وحفظ للأذن عن سماع المحرمات، وحفظ لليدين عن السرقة والغصب والغش
والإيذاء والإعتداء، وحفظ للرجلين عن المشي بهما إلى ما حرم الله، وحفظ
للقلب عن الغل والحقد والحسد والبغضاء والاعتقاد الباطل، وحفظ للفرج عما
حرم الله، وجماع ذلك تقوى الله ومراقبته في السر والعلن كما قال ربنا
سبحانه: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ والمعنى: كتب عليكم الصيام، كما كتب على
الذين من قبلكم لتقوى الله، فلله در الصيام أن كان بهذه المثابة، ولله
الحمد والشكر على نعمه التي لا تعد، ولا تحصى، والحمد لله الذي بنعمته تتم
الصالحات.
منقول