استقبال رمضان
الحمد لله
جعل لعباده مواسم يتقربون إليه فيها بأنواع الطاعات، فيغفر لهم الذنوب،
ويرفع لهم الدرجات، وأشهد أن لا اله إلا الله حكم فقدر، وشرع فيسر، ولا
يزال يفيض على عباده من أنواع البر والبركات، وأشهد أن محمداً عبد الله
ورسوله، أول سابق إلى الخيرات، صلى الله عليه وعلى آله وعلى أصحابه الذين
كانوا يحافظون على طاعة ربهم في جميع الأوقات، ويخصون أوقات الفضائل بمزيد
من القربات، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
أيها
المسلمون: إن الناس في هذه الأيام يحدث بعضهم بعضاً بقرب شهر رمضان، وهم في
أواخر شهر شعبان، ويودعون شهراً قرب أن يطوي سجله، ويستقبلون شهراً كريماً
عزيزاً على قلوب المسلمين، كم يفرح المسلمون أيها الإخوة بقدوم شهر رمضان،
والله إنك لتجد هذه الفرحة في قلوب الكبار والصغار، الرجال والنساء، حتى
أطفال المسلمين يحسون أن شيئاً قد تغير هذه الأيام، فيسأل عنه، فيخبر أنه
رمضان، فيتربى على هذه الروحانية منذ نعومة أظفاره.
أيها
المسلمون: إن الله -عز وجل- يحب المسلم أن يعبده ويطيعه في جميع مدة حياته،
كما قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [(99) سورة الحجر]،
قال بعض السلف: ليس لعمل المسلم غاية دون الموت، ولكن الله -عز وجل- بمنه
وكرمه جعل هناك مواسم للعبادة، تضاعف فيها الحسنات أكثر من غيرها، ومن هذه
المواسم شهر رمضان المبارك الذي أنزل فيه القرآن، هدى للناس وبينات من
الهدى والفرقان.
فيا له من موسم عظيم الشأن، وقد قارب حلوله عليكم ضيفاً مباركاً، ووافداً
كريماً، فأكرموا ضيفكم يا عباد الله، فإن العرب قد عرفت بالكرم، واشكروا
الله إذا بلغكم إياه، وأسالوه أن يعينكم على العمل الصالح فيه، واسألوه بعد
ذلك بجد وإخلاص أن يتقبله منكم، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو
الله أن يبلغه رمضان، فقد روى الطبراني وغيره عن أنس -رضي الله عنه- أن
النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو ببلوغ رمضان، فكان إذا دخل شهر رجب
قال: ((اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان))، وقد كان بعض السلف
رحمهم الله تعالى يدعون الله -عز وجل- ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعون
بعده ستة أشهر أن يتقبله منهم.
عباد الله:
لقد بين لكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث الشريف، فضل هذا
الشهر وما فيه من الخيرات، وحثكم على الاجتهاد فيه بالأعمال الصالحة من
فرائض ونوافل، من صلوات وصدقات وبذل معروف وإحسان، وصبر على طاعة الله،
وعمارة نهاره بالصيام، وليله بالقيام واجتهاد في الدعاء والذكر، وطلب لليلة
القدر، التي هي خير من ألف شهر، فلا تضيعوه بالغفلة والإعراض كحال
الأشقياء الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، فلا يستفيدون من مرور مواسم
الخير عليهم، ولا يعرفون لها حرمة، ولا يقدرون لها قيمة.
فيا أخي المسلم تب إلى ربك وانتبه لنفسك، واستقبل هذا الشهر بالإقبال على
الله، فإن الله يغفر الذنوب جميعاً، وداوم على التوبة والاستقامة في بقية
عمرك، لعل الله أن يختم لك بالسعادة، ولعلك تكتب في هذا الشهر من جملة
العتقاء من النار، شهر رمضان تفتح فيها أبواب الجنان وتغلق فيه أبواب
النيران، ويصفد فيه كل شيطان، وتتنزل فيه الخيرات من الرحمن، شهر عظمه الله
فعظموه، وضيف كريم سينزل بكم فأكرموه.
أيها
المسلمون: إن هذه الأمة أعطيت خمس خصال لم تعطهن أمة من الأمم قبلهم،
الأول: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، الثاني: تستغفر لهم
الملائكة حتى يفطروا، الثالث: يزين الله كل يوم جنته فيقول: يوشك عبادي
الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى، ويصيروا إليك، الرابع: تصفد فيه
مردة الشياطين فلا يخلصون إلى ما كان يخلصون إليه في غيره، الخامس: يغفر
لهم في آخر ليلة منه.
إنه شهر
رمضان يا عباد الله، من صامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه،
ومن أتى فيه بعمرة كان في الأجر كمن حج فيه. روى البخاري ومسلم في صحيحيها
حديث أبى هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((قال
الله -عز وجل-: كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، والصوم
جنة -يعني وقاية من الإثم والنار- فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا
يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم
الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما فرحة عند فطره
وفرحة عند لقاء ربه، أما فرحة عند فطره فيفرح بنعمتين نعمة الله عليه
بالصيام، ونعمته عليه بإباحة الأكل والشراب والنكاح، وأما فرحة عند لقاء
ربه فيفرح بما يجده من النعيم المقيم في دار السلام)).
وفي صحيح
البخاري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إن في الجنة باباً يقال
له الريان، يدخل منه الصائمون لا يدخله غيرهم، فإذا دخلوا أغلق ولم يفتح
لغيرهم))، وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((ثلاثة لا ترد دعوتهم، الصائم حتى
يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها لله فوق الغمام وتفتح لها
أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين)).
وفق الله
الجميع لما يحب ويرضى، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن
الرحيم: {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ
الْحَمِيدِ * اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ
يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن
سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ} [(1-3) سورة إبراهيم].
عباد الله: إن خير ما يستقبل المسلم شهر رمضان هو التوبة إلى الله -عز
وجل-، وإن شر ما يستقبل المسلم شهر رمضان هو بقائه على ذنوبه، فإن الذنوب
يا عباد الله حجاب عن الله، واعلموا رحمكم الله أن الانصراف عن كل ما يبعد
عن الله واجب، وإنما يتم ذلك بالعلم والندم والعزم، فإنه من لم يعلم بأن
الذنوب من أسباب البعد عن الله لم يندم على ذنوبه و لم يتوجع بسبب سلوكه،
وإذا لم يتوجع لم يرجع.
أيها المسلمون: يقول الله -جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ
عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ} [(
سورة التحريم]، ولكي تكون التوبة مقبولة عند الله -عز وجل- لابد يا عباد الله أن تتوفر فيها شروط خمسة.
فأما الشرط الأول: فهو الإقلاع عن الذنب، وعلامة ذلك مفارقة الذنب فوراً.
وأما الشرط الثاني: فهو الندم على ما فات من فعلها، وعلامته طول الحزن على
الأيام التي قضاها في معصية الله، كما جاء في الأثر: الندم توبة.
وأما الشرط الثالث: فهو العزم على أن لا يعود إلى معصيته أبداً.
وأما الشرط الرابع: فهي إذا كانت المعصية تتعلق بحق آدمي أن يردها إليه أو
يتحلل منه، لما روى البخاري في صحيحه عن أبى هريرة -رضي الله عنه- عن النبي
-صلى الله عليه وسلم- قال: ((من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو مال
فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون درهم ولا دينار، إن كان له عمل صالح أخذ
بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)).
وأما الشرط الخامس: فهو أن تكون التوبة قبل الغرغرة، فإن بلغت الروح الحلقوم انقطعت التوبة.
أيها
المسلمون: إن الله -عز وجل- غفار لذنوب التائبين إذا أقبلوا عليه بقلب
خالص، فقال -عز شأنه-: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ
ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ
وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا
فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن
رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ
فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [(135، 136)
سورة آل عمران]، وقال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا
الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [(31) سورة النــور]، وقال -عز من
قائل-: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا
ثُمَّ اهْتَدَى} [(82) سورة طـه]، وأخبر سبحانه أنه يحب التوابين فقال
تعالى: {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [(222) سورة البقرة].
وقال النبي
-صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم في صحيحه: ((يا أيها الناس توبوا إلى
الله واستغفروه، فإني أتوب في اليوم مائة مرة))، وقال -عليه الصلاة
والسلام-: ((إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار
ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)) [رواه مسلم].
كل هذا يا
عباد الله لأن الذنوب مهلكات، مبعدات عن الله، فيجب الهرب منها إلى النور،
وليحذر الإنسان كل الحذر من الذنوب الكبائر والصغائر، ووجوب التوبة من
الكبائر أهم وآكد، والإصرار على الصغيرة أيضاً كبيرة، فلا صغيرة مع
الإصرار، ولا كبيرة مع التوبة والاستغفار، وتواتر الصغائر عظيم التأثير في
تسويد القلب، وهو كتواتر قطرات الماء على الحجر، فإنه يحدث فيه حفرة لا
محالة مع لين الماء وصلابة الحجر.
فعلى المسلم
العاقل أن يسترصد قلبه باستمرار، ويراقب حركاته، ويسجل تصرفاته، ولا
يتساهل، ولا يقول إن هذا من التوافه الصغار، وصدق رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- حيث يقول: ((إياكم ومحقرات الذنوب فأنهن يجتمعن على الرجل حتى
يهلكنه))، وصدق الشاعر إذ يقول:
ولا تحتقر كيد الضعيف فربما *** تموت الأفاعي من سموم العقارب
وقد هدّ قدماً عرش بلقيس هدهد *** وخرب صفر الغار سد مأرب
عباد الله:
ومن الأمور الغير مشروعة والتي تعد من البدع هي الاعتماد على التقاويم في
دخول الشهر وخروجه، سواء في رمضان وفي غيره من الشهور؛ لأن الرسول -صلى
الله عليه وسلم- يقول: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) أي رؤية الهلال،
فإذا وافقت الرؤية التقويم فيها وإن خالفت فإن الذي أمرنا به هو الاعتماد
على الرؤية وليس على التقويم. ومن جعل التقويم هو الأساس فانه قد أحدث في
الدين ما ليس منه، ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من أحدث في أمرنا
هذا ما ليس منه فهو رد)).
اللهم
ارزقنا العافية في أبداننا والعصمة في ديننا، اللهم بلغنا رمضان...، اللهم
ووفقنا فيه للعمل الصالح الذي يرضيك عنا، وجعلنا اللهم ممن صام نهاره وقام
ليله إيمانا واحتساباً، اللهم ويسر لنا فيه عمرة تعدل حجة مع رسول....،
اللهم اغفر للمسلمين...، اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته ولا هماً إلا
فرجته...، اللهم ارزقنا العافية في أبداننا و العصمة في ديننا وأحسن
منقلبنا ووفقنا للعمل بطاعتك أبداً ما أبقيتنا، واجمع لنا بين خيري الدنيا
والآخرة، واغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين،
برحمتك يا أرحم الراحمين.
واعلموا أن
الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى فيه بملائكته المسبحة بقدسه، وثلث بكم
أيها المؤمنون، فقال -عز من قائل- عليماً وأمراً حكيما: {إِنَّ اللَّهَ
وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [(56) سورة الأحزاب]،